ماثيو ريغوست: حرب غزة إيذان ببداية عصر الفاشية الأمنية

في 10 كانون الثاني/ يناير 2025، عُرض للمرّة الأولى فيلم «Nous sommes des champs de batailles» (نحن ساحات قتال)، وهو من إخراج الباحث الفرنسي، ماثيو ريغوست، المتخصّص في شؤون منظومات السيطرة الأمنية. هذا الفيلم الوثائقي هو عبارة عن تحقيق داخل معرض «ميليبول» (المعرض التجاري العالمي للأمن الدولي الداخلي)، يمكّن من فهم طريقة عمل تجارة الحرب والسيطرة العالمية في بلد أصبح ثاني أكبر بائع للأسلحة في العالم: فرنسا. يشرح ريغوست، في هذه المقابلة، صيرورة هذا المشروع، ويرى أن حرب الإبادة الجماعية في غزة تمثّل استمرارية لقرون من سياسات التوسّع والحرب من قبل الرأسمالية المعولمة والإدارة الإمبريالية للعالم، وفي الوقت نفسه منعطفاً في مسارها التاريخي سيفضي إلى تشكّل نمط من الإدارة الأمنية الفاشية للتناقضات الاجتماعية والسياسية على الصعيد الدولي.
■ ما هو هدفك الرئيسيّ، من قضاء سبع سنوات في صناعة هذا الفيلم الذي لا يستند إلى مجرد تحقيق استقصائي، بل يعكس التزامك وموقفك النقدي؟
تكمن جذور هذا الفيلم في عشرين عاماً من البحث في النظام الأمني. هناك أدوات نقدية في العلوم الاجتماعية، وإذا ما استخدمناها بطريقة معينة، يمكنها أن تصبح أسلحة فعالة في سياق النضالات التحررية. السؤال الذي يقع في صميم تفكيري هو ما الذي يمنعنا من تحرير أنفسنا؟ ما الذي يبقي المجتمع منظّماً حول هيمنة الأقلية على الغالبية العظمى من البشر؟ كيف تعمل الشرطة، والجيش، ومؤسسات المراقبة، والقمع؟ ما هي مرتكزات الحرب والسيطرة؟ في هذا السياق، أنا مهتم بشكل خاص بأعمال الحرب والسيطرة، وبالرأسمالية العسكرية - الأمنية، في محاولة لفهم كيف ولماذا يجد هذا الاقتصاد السياسي نفسه في قلب الرأسمالية المعولمة المعاصرة والديناميات الإمبريالية الجديدة. أجري تحقيقات، ولا سيما في معارض الدفاع والأمن، أي في الأسواق الكبرى للأسلحة والمراقبة والقمع. أجري مقابلات وأكتب دراسات وأدلي بملاحظات. اكتشفت أنه كان من الممكن إجراء مقابلات معمّقة إلى حدّ ما مع مصنِّعي الأسلحة، ومع المديرين والقائمين بالاتصالات، وكذلك مع القادة السياسيين والاقتصاديين.
إذا استطعنا أن نفهم بشكل أفضل كيفية عمل الآلية، يمكننا أيضاً أن نرى أين توجد ثغرات، وكيفية استغلالها لمصلحة معركة التحرر. الأشخاص الذين التقيتهم قدّموا لي عرضاً واضحاً للآليات الرئيسيّة التي تتمثل، في الواقع، بتحقيق الأرباح في هذا المجال من خلال البيع في السوق العالمية للدول، ولكن أيضاً للصناعيين في القطاع الخاص، والجيوش الخاصة... إلخ. إن قدرة المُصنِّع على إقامة تعاون منتظم ويومي مع قوات الشرطة، ومع قطاع من الجيش، ومع وكالات الأمن الخاصة، وكذلك مع صنّاع القرار، ومع وزارة الداخلية، ومع أقسام الهندسة والتصميم، ومع قطاعات البحث والتطوير، تمكّنه من تطوير السلع مباشرة بالتعاون المستمر مع الدولة، التي ستشتريها وتبيعها كابتكارات. لكن الشركة المصنّعة تقوم أيضاً بتطوير اتصالات مع المستخدمين النهائيين، أي الشرطة والجيش وما إلى ذلك، لتحفيز رغبتهم في الحصول على أسلحة جديدة وتقنيات جديدة، ومن ثم تكييف هذه المنتجات بحيث يضغط المستخدمون النهائيون على وزاراتهم للحصول على هذه المنتجات. وعندما يتم توقيع هذه العقود، فإنها تفتح إمكانية القول بأننا نورّد للدولة الفرنسية مثلاً، ومن ثم نذهب إلى جميع الدول الأخرى في العالم ونقول: نحن نورّد لقوة كبرى، ونحن نتمتع بالمصداقية، ولدينا الوسائل للتصدير إلى فاعلين آخرين، وبالتالي يفتح ذلك سوقاً عملاقاً.
في كل مرة يتم فيها تطبيق الأنظمة السلعية فعلياً، في الميدان، أي في ساحة المعركة الاجتماعية التاريخية، تتعطّل بشكل منتظم جداً بسبب تناقضاتها الداخلية
بالنسبة إلى الحكومات والمصنّعين على حد سواء، هناك مصلحة أساسية في استخدام هذه السلع، وبالتالي هناك سلسلة كاملة ممّا يسمّونه العمليات الميدانية الخارجية والاستعمارية والعسكرية، والعمليات الداخلية أيضاً في المراكز الإمبريالية؛ إذ لا يمكننا أن نفهم سبب حدوث استعراض لعنف الدولة من دون أن نأخذ في الاعتبار أيضاً حقيقة أن لدينا تعاوناً بين جهات فاعلة حكومية وأخرى خاصة لها مصلحة في استخدام منتجاتها وتجديدها، واختبارها، والتباهي بها، وإظهار فعاليتها، وما إلى ذلك. وهذا يؤدي إلى سباق تسلح وتنافس؛ فعندما تمتلك دولة ما سلعة جديدة، أو تكنولوجيا جديدة، وتستطيع أن تثبت أنها فعّالة بطريقة ما، فإنها تجبر جميع اللاعبين الدوليين على إعادة تموضعهم في هذه الميادين، أي السعي إلى اقتناء هذه الأسلحة وهذه التكنولوجيات، أو تطوير نفس النوع من التكنولوجيا، أو تكنولوجيات مضادة قادرة على التعامل معها. وهذا ما يحفّز السوق بشكل هائل؛ إذ يبدو جلياً أنه قطاع يمكن أن تتراكم فيه أرباح ضخمة، بالإضافة إلى ما يمنحه من حيث التموضع الجيوسياسي، نظراً إلى أنه يسمح للدولة أو الشركة المُصنّعة بتقديم نفسها كرائدة في هذا القطاع، وبالتالي المطالَبة بمراكز مهيمنة.
■ هل يمكن أن تشكّل الحرب التي شهدناها في غزة شكلاً جديداً من أشكال الحرب الخارجية؟ نحن في سياق يتفكّك فيه النظام الدولي الليبرالي برمّته، وغزة تدشّن إبادة القاعدة الاجتماعية لحركات التمرد، وفي الوقت نفسه ثمة مقاومة عنيدة من قبل المجتمع المستهدف بهذه العملية، فهل يمكن أن تصبح غزة شكلاً جديداً من أشكال الحرب الخارجية للقوى الغربية التي طالما فشلت في الحروب غير المتكافئة (فيتنام، الجزائر، العراق... إلخ)؟
في ما يتعلق بحرب الإبادة الجماعية في غزة، أحاول أن أضع تحليلاً في كتاب سيصدر عن دار «لا فابريك» في نيسان/ أبريل بعنوان «الحرب العالمية ضد الشعوب»، وعنوانه الفرعي «ميكانيكا النظام الأمني (الإمبريالي)». وهو تحليل أرى من خلاله أن ما حدث خلال العام الماضي، ولا يزال يحدث في فلسطين، هو جزء من استمرارية الرأسمالية المعولمة والإدارة الإمبريالية للعالم - وهي استمرارية تمتد لعدة قرون وترتبط بالبنية العميقة للحداثة الرأسمالية والإمبريالية -، وهو في الوقت نفسه قطيعة. وتعني هذه الاستمرارية أنه، على عكس ما ادّعته القوى الغربية عندما نشرت نظام هيمنتها على العالم، أي تحقيق عصر الحضارة والعقلانية القائمة على السلام، والعدالة، والعقل، والحقوق، ... إلخ، نحن نشهد من منظور شعوب الجنوب المضطهدة، سلسلة متوالية من العمليات العدوانية ضد السكان المدنيين، وبالتالي ضد الطبقات العاملة في الواقع. أخيراً، إن آليات الهيمنة التي كانت تعمل في فلسطين المحتلة منذ عامَي 1947 و1948، وحتى قبل ذلك مع الاحتلال الاستعماري البريطاني، هي ديناميكيات يمكن العثور عليها في بنية كل الهيمنة الإمبريالية على مدى عدة قرون: تهجير السكان، واستخدام أساليب الحرب ضد الطبقات الكادحة، والاعتقال في المعسكرات، والتعذيب، والاختفاء، والاغتصاب، والقتل الجماعي، واستخدام الدعاية والإعلام، وهياكل التحكم اليومي بالسكان.
كل الممارسات المشار إليها سادت في تاريخ الحداثة الإمبريالية، وتتركز حالياً في فلسطين المحتلة، وتصل بمعنى ما إلى أوجها. وهذا أيضاً ما هو على المحك في حرب الإبادة الجماعية في غزة. ولكن هناك أيضاً قطيعة هي جزء من عملية يمكن أن نسمّيها: الفاشية الجديدة، أي شكل جديد من أشكال الفاشية التي تركز على الأجهزة العسكرية - الأمنية، وهناك بالفعل سمات شبيهة بسمات فاشية الثلاثينيات، وهي تحاكيها بشكل ما، ولكن لها خصائصها الخاصة بها. ومن وجهة النظر هذه، من الواضح أن حرب الإبادة الجماعية في غزة تشنها الدولة الإسرائيلية، ولكنها نتاج التكتل عبر الأطلسي، ولم يكن من الممكن أن توجد من دون التسليح والتمويل والإفلات من العقاب بفعل المشاركة الفاعلة للقوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في هذه الحرب. نحن أمام ساحة اختبار للفاشية الجديدة التي تتجلى كشكل من أشكال الفاشية العسكرية - الأمنية الجديدة، وبالتالي فهي تجربة واستعراض للقوة في آن واحد، وإثبات لبقية العالم أن الإمبريالية الغربية، حتى وإن كانت في حالة تراجع، مستعدة للدفاع عن هيمنتها من خلال تطبيق آليات الإبادة الجماعية القائمة على التقنيات الجديدة، وخصوصاً في المجال الرقمي والسايبرنِيتي والخوارزميات.
■ بما أن التحالف بين فرنسا وإسرائيل لا يقوم فقط على الأيديولوجيا، بل أيضاً على الخبرة في إدارة السكان والسيطرة عليهم، فهل يمكن أن تكون الإدارة الأمنية الإسرائيلية للسكان نموذجاً لفرنسا في سياق تفاقم الصراع الداخلي؟
من وجهة نظر التعاون الصناعي والتكنولوجي بين فرنسا وإسرائيل، فإن هذا الأمر مرة أخرى هو أمر منهجي ويعود إلى زمن بعيد. فمنذ أن تأسست إسرائيل، وفرنسا تنقل الأسلحة والمعرفة التكنولوجية، ولا سيما الأسلحة النووية. في سياق ما بعد عام 1967، كانت للولايات المتحدة اليد العليا من حيث إمدادات الأسلحة، ولكن أيضاً من حيث نقل الخبرات الفنية. وفي الفترة نفسها، كانت دولة إسرائيل في الأصل دولة مكافحة تمرد، ومن هذا المنطلق، هي وضعت شعبها في قلب عملية مكافحة التمرد الدائمة. كما أنها دولة اندمجت منذ البداية مع رأس المال العسكري - الأمني، لذا فإن هذا التعاون مع فرنسا على وجه الخصوص مستمر حتى يومنا هذا، ولكن هناك أيضاً منافسة واضحة بينهما في مجال الطائرات من دون طيار. وفيما يتم تطوير بعض الطائرات من دون طيار بالتعاون بين شركتي «Thales» و«Elbit Systems»، سينتج من ذلك، على سبيل المثال، بعض الطائرات بدون طيار التي ستُستخدم في كاليه ضد المنفيين أو في البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل ليبيا. في الوقت نفسه، سيتم توريد منتجات جديدة من شركة «تاليس»، أي من قِبل شركة تصنيع عابرة للحدود الوطنية يقع رأس مالها في فرنسا في البداية، وستتنافس لاحقاً مع بعضها البعض. على سبيل المثال، في مجال صناعة الطائرات من دون طيار وتوريدها إلى المغرب، كانت هناك منافسة بين إسرائيل وفرنسا، فازت بها الأولى.
إن التعاون والتنافس هو نظام عام إلى حد ما: لديك لاعبون مهيمنون سيمكّنهم التعاون في ما بينهم من إنشاء نظام لتراكم رأس المال، وسوق عالمي يمكنهم التنافس فيه مع بعضهم البعض من أجل الهيمنة عليه. يمكننا أن نرى ذلك أيضاً في مجال الشرطة؛ إذ ثمة تعاون في مجال الشرطة بين فرنسا وإسرائيل، كما هي الحال بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وهناك تدريب أيديولوجي وتقني مستمر، وهو مرتبط تماماً بإمكانية البيع، مع وجود خبراء ودبلوماسيين في جميع البلدان التي يتم التعاون معها. وهذا يعطينا الفرصة لوجود وكلاء وشبكات لخدمة مجموعة كاملة من المصالح الأخرى، تعمل في كلا الاتجاهين. ومن الأمثلة على ذلك انتفاضات عام 2005 في فرنسا، حيث نعلم أن الضباط والجنود والشرطة الإسرائيلية جاؤوا إلى باريس في ذلك الوقت وتبادلوا الأفكار، فيما تفاخر الجانب الإسرائيلي بأنه استُدعي لنقل خبراته في التعامل مع الفلسطينيين. أما فرنسا فكانت تحاول أيضاً الترويج لخبراتها في الضواحي، أي في ما يسمّى بأراضي ما وراء البحار، كضمان لتميّزها في هذا المجال. ومن وجهة نظر الإسرائيليين والفرنسيين على حدّ سواء، هناك حقيقة مفادها أن القوى التي تمتلك مناطق استعمارية لديها إمكانية تطوير التقنيات بشكل دائم في وضع استعماري، وفي أماكن أخرى، من دون أن تقلق بشأن الحفاظ على حقوق الإنسان وكرامة الأجساد وما إلى ذلك.
مع ذلك، يجب أن ندرك أن هناك خطاباً متواصلاً يريد أن يدّعي المعرفة الكلية والقدرة الكلية والكفاءة المطلقة، في حين أن كل هذه الأنظمة السلعية هي في الواقع تتطوّر باستمرار، وتضطرّ باستمرار إلى التكيف مع من يقاومها. نحن نرى أنه في كل مرة يتم فيها تطبيق تلك الأنظمة فعلياً، في الميدان، أي في ساحة المعركة الاجتماعية التاريخية، تتعطل بشكل منتظم جداً بسبب تناقضاتها الداخلية، فضلاً عن أن الخاضعين للسيطرة مضطرّون إلى تطوير إبداع دائم من أجل البقاء. لذا، يجب ألّا ننخدع بالخطاب العسكري - الأمني، الذي يدّعي أنه يعرف كل شيء، ويتنبّأ بكل شيء ويمسك بزمام الأمور كلها، بينما هو في الواقع مضطرّ باستمرار إلى إعادة تنظيم نفسه لأنه يمرّ بأزمات داخلية وخارجية باستمرار.
* المتخصّص في شؤون منظومات السيطرة الأمنية